لاشكّ أن تصويب نهوج البحث العلمي في كلّ العلوم مسألة بالغة الأهمية، لما يترتّب عليها من نجوع وفعالية في نتائج تلك البحوث فضلاً عن سيروراتها، وإمكان درء أضرارها، والإستفادة منها لصالح الإنسانية. وكذلك القول عن بعض القضايا الأخرى الهامّة في الإنتاج وفي الإجتماع البشري. فكل الشواغل الإنسانية الهامّة تشتق منها أهداف جليلة نسعى إلى تحقيقها. وقلما تكون تلك الشواغل بنفس الأهمية؛ كما يندر أن تظفر بعضها بنفس الأسبقية التي يستحقها اليوم الشاغل الأكبر المتمثّل ببقاء الإنسانية على قيد الحياة، على ظهر كوكب الأرض، وضمن هذه الأكوان التي نكتشفها تدريجاً.
فقد بات واضحاً اليوم أنّ العالم يغذُّ السير نحو التدمير الذاتي والهلاك. وقد شعرنا بذلك شعوراً صارخاً منذ السبعينات الميلادية من هذا القرن على الأقل. وكان بإمكاننا إذ ذاك، أن نستثمر خيارات أوسع نطاقاً لإصلاح الحال. لكن تلك الخيارات تقل بمرور الزمن وبتفاقم الوضع من سيِّئ إلى أسوأ. فكيفما اتجهنا الآن نجد دلائل الإجهاد، والإزدحام، والتلوّث الرهيب بأنواعه، واستنزاف موارد الطبيعة التي لا تعوّض، والعمل على انقراض التنوّع فيها، وتدهور أحوال التبيؤ على الأرض والطبقات المحيطة بها، وازدياد عدد السكان وعدد الفقراء، وشيوع العنف الفردي والجماعي والدولي، وفقدان التراحم والتكافل، وإشعال المنازعات والحروب المحلية. هذه هي الحلقة المفرغة التي ندور فيها الآن، ونكاد نفقد الأمل في كسر طوقها. وقد وصفتها التقارير المحلية والدولية بإسهاب ووضوح، ولا سيما تقارير منظمة اليونيسكو.
كل تلك البلايا التي جلبها الإنسان الحديث على نفسه ودنياه ومستقبله، قوَّت شوكته البهيمية غير المحدودة، أضعفت إحساسه الإنساني. وخنقت رأفة الإنسان القوي بأخيه الضعيف؛ وخلقت مجتمعاً تنافرياً، تصادياً، جشعاً، قتّالاً للجميع، أين منه مجتمع الغاب الرحيم نسبياً الذي يكفّ أعضاؤه عن الأذى لغيرهم، عندما يسدّون رمقهم؛ بينما يزداد أعضاء مجتمعنا الحديث شراسة ونهماً كلّما ارتووا وشبعوا من المال والنفوذ والسيطرة على الآخرين؟
هذه الصورة المشوّهة للإنسان الحديث الطمّاع الأحمق، لا تليق بالإنسان المكرّم المستخلف في الأرض، ولا بمستقبله. وأدهى ما فيها أن سيرورتها التقهقرية بطيئة تراكمية، تتعود على مساوئها طاقة الدماغ البشري، عبر الأجيال، وقلما تجد من يناقشها الحساب، ويوقف هذا المدّ التدهوري في نوعية الحياة الإنسانية.
والمنشود اليوم تغييرات كبرى على مستوى العالم في تفكير البشر وفعلهم وسلوكهم. وأيّ فروع معرفية أفضل من العلوم الإجتماعية/ النفسية، لتشخّص الضرر الحاصل وتقدِّم الحلول؟
لأوّل مرّة في تاريخ العلم والعالم يتمكّن نموذج البحث المعرفي/ العقلي في علم النفس الجديد من تقديم مقاربة علمية للأسئلة المحورية الكبرى، مثل: "أيّ عالم نريد؟ ومن أي نوع؟ وماذا نفعل لنصل إليه؟". وكذلك بالنسبة إلى القضايا الأخلاقية المصيرية، مثل: "ما هي المثل العليا التي توجّه الوجود على كوكب الأرض، أحسن توجيه؟"، و"ما هي أفضل المقاييس للخير والشر، والعدالة الإجتماعية؟". وفيما يلي محاولة تمهيدية للإجابة عن مثل هذه الأسئلة من أجل تنشيط الحوار حولها، ودعوة العلوم الإجتماعية والإنسانية لتعطيها الصدارة في برامج البحث.
والعبرة الجوهرية هنا هي أنّنا أصبحنا اليوم نستطيع أن نستنجد بالعلم المطوّر لإنقاذ العالم. ولكن ذلك لن يحصل عن طريق تحسين التكنولوجيا، والقيام بالثورة الخضراء وما أشبه ذلك، لأنّ مثل هذه التدابير لا تنفع سوى في تأجيل حصول الكارثة مع تضخيمها. إنّما يتم إنقاذ العالم بواسطة مجموعة من القيم الصالحة، القابلة للإستدامة دون إيذاء الإنسان والطبيعة، والتي يجدر أن تحكم معيشتنا وتؤمّن لنا حياتنا في مستقبل الأيام.
وهناك علماء شرفاء عاكفون على إرساء القواعد لمثل هذا الأمر، في بعض بقاع الدنيا. إنّما يلزم توسيع نطاق مثل هذا الجهد الإنقاذي، فكرياً وإجتماعياً، ليخرج من نطاق اهتمام العلماء والمفكرين إلى عناية سائر جماعات الشعب وأفراده، وصولاً إلى السياسيين والحكام وأولي الأمر، الذي بيدهم الحل والربط واتّخاذ القرارات وتنفيذها، على مستوى البلد الواحد، وعلى المستوى الإقليمي والمدى الدولي والعالمي.
ويجدر التوكيد على أنّ أمراض العالم وقضاياه المشار إليها لن تشفى بتطبيق المزيد من العلم التقليدي والتكنولوجيا. فبالرغم من التقدّم العلمي الهائل الذي حصل عالمياً حتى اليوم، والتكنولوجيات العجيبة التي نجمت عنه، فإنّ أحوال العيش للغالبية العظمى من البشر لم تتحسّن، بل تردّت؛ ولا سيما في البلدان المتنامية إسماً، وزاد عدد العاطلين فعلاً عن العمل المجزي، فضلاً عن زيادة عدد السكان، وتزايد النقمة الإجتماعية. ويبدو أنّ معظم التدابير التحسينية، بما فيها مثلاً، الحصول على مصدر جديد للطاقة، أو وسيلة متقدّمة لنقل الجماهير، أو حتى إصلاح كبير للبيئة، وسائر التطويرات القصيرة المدى، لا تغني من الأمر ما فيه الكفاية في المدى البعيد؛ بل إنّها تفاقم المشكلات، وترمينا في عمق القضايا الخاسرة، وتجعلنا أكثر عبودية لها سنة بعد سنة؛ ولا سيما بشأن المسائل التي حصل الضرر فيها بشكل لا ينقض ولا يبطل.
والمطلوب الآن لكسر هذه الأغلال التي تقيّد المسيرة الإنسانية، هو اقتناع البشر بإعادة نظر جذرية على مستوى العالم كلّه في أهدافهم، وأساليب معيشتهم، ومواقفهم واتّجاهاتهم، ومعاودة توجيه قيمهم الإجتماعية وسياساتهم نحو الأولويات المستقبلية البعيدة المدى، التي تضمن رعاية نوعيةٍ راقية متطوّرة من الحياة الإنسانية للأجيال الحاضرة والأجيال الطالعة. ولن يستقيم الأمر ما لم تخرج الإنسانية بتصوّر جديد لمهمة الإنسان المستخلف في الأرضح إنطلاقاً من غايات جديدة وقيم جديدة، تعيد للإنسان كرامته وتكريمه وسعادته كمخلوق فذّ أؤتمن على هذا العالم بكل ما فيه.
- أطروحة الدرب الحرج
ومن أساليب التفكير الجديدة والمحاولات العلمية الحقيقية اللازمة لانتشال الإنسانية من الحمأة التي أوقعها المتنفذون فيها، الثورة المعرفية، في بعض وجوهها. ولكن هناك أيضاً طروحات أخرى من أبرزها أطروحة "الدرب الحرج" التي أرساها المهندس الذائع الصيت ومبتكر "القبة الجيوديزية"، "باكمينستر فولر". وهو من كبار العلماء والمصلحين الإجتماعيين في الدنيا قاطبة؛ الذين تركوا فيها آثاراً علمية وإجتماعية مشهودة.
ففي كتابه المرسوم بالعنوان نفسه، يطرح "فولر" الخطوات الحرجة التي من شأنها أن تقود الإنسانية إلى الخير العميم للجميع دون استثناء. وقد انطلق من أنّ قوانين المادة مصممة بشكل متخادم، يخدم بعضها بعضاً. وطفق يحاول أن يكتشف بعض تلك القوانين، ويرسم "السيناريو" الفكري للعالم. وهكذا زاد إيمانه بعظمة الكون، وخالقه، ومخلوقاته، وقوي تفاؤله بمصير الكون، ومصير الإنسان المستخلف في الأرض، إذا أحسن هذا الإنسان التبيؤ في الأرض وفي الكون، وتماشى مع قوانين الطبيعة، ونما، إذ إن إمكانيات الشخص العادي الذي ولد على الفطرة، لم تستثمر بعد.
وبذلك الموقف يتجاوز "فولر" القانون الثاني من قوانين الديناميكيات الحرارية، الذي ينص على قناء كل شيء، لا محالة؛ إذ إنّه في نظام مادي مغلق، لامفر من أن تتبعثر الطاقة، وتزداد الفوضى فتقود إلى نوع من العشوائية أو عدم الإستفادة أو الفناء. ولذلك لابدّ أن يندثر العالم، ويموت معه كل أمل في تطوّر الحياة. وهذا صحيح علمياً لو كان العالم حيزاً مادياً؛ لكن العالم ليس كذلك. إنّه جوهرياً فكر يلف الطبيعة؛ وبالتالي غير مادي، ولا يخضع للقانون الثاني المميت المذكور. بل على العكس من ذلك، إنّ الفكر يسمو حكماً إلى ألوان أخرى من التنظيم والنمو. فالفكر لا يقل تعلمه، بل يزيد. اضف إلى ذلك إمكان تحويل المادة إلى طاقة، الطاقة إلى مادة.
ويستنتج "فولر" من ذلك أنّ التصميم العام للكون، يقوم على التجدّد المستديم. فإذا تعاون الإنسان مع هذا التصميم التجددي وطور ذاته باستمرار، فإنّه يتجدّد مع الطبيعة إلى ما لا نهاية له في منظورنا الحالي.
وفي إطار الحياة الكونية، يتساءل "فولر" من أنا؟ ويجيب عن ذلك بقوله: أنا لست شيئاً، أو اسماً... إنّني "فعل" فعّال في السيرورات، أي العمليات، التطوّرية، أي إنّني كائن إنساني أطور ذاتي، وأنا شاعر بذلك. وهكذا يتطوّر الناس ويصنعون مستقبلهم الزاهر أو يقودون أنفسهم إلى الهلاك، إذا لم يتجاوزوا حدودهم السابقة. فكلّما تحرّر إنسان من المرض والجوع، والجهل وسائر الأمور الاصطناعية التي تقيده، قويت شكيمته، ووسع حياته، وأصبح فاعلاً كونياً، على غرار ما حققه "فولر" في اختراعاته، وفي مشاريعه الكونية، وفي حياته. إنّ الخطر الذي نجابهه ليس ناتجاً عن محدوديات طبيعية، بل إنّه ناجم عن الجهل العام، وعن سوء استعمال النفوذ والسلطة وتوجيهها لمصالح خاصة؛ ولا سيما من قبل بعض الموسرين الأنانيين.
إنّ في العالم، بنظر "فولر"، تصميماً رائعاً للوفرة المتجدّدة وللخير العميم للجميع. "وينبغي أن نخطط لإيجاد "الدرب الحرج" الذي يقودنا إلى تطوير أنفسنا وعالمنا لما فيه خير الجميع". ولو استعملنا كفاءتنا بكامل طاقاتها خلال عشر سنوات، لأمكننا أن نرفع مستوى المعيشة للإنسانية كلّها إلى درجات لم يحلم بها أحد، وأن نحافظ على ذلك المستوى. ومن الأمثلة على هذه الإمكانات غير المستثمرة أنّنا نستطيع أن نعيش كلّنا، بواسطة استراتيجيتنا التكنولوجية، عيشة فخمة على ما تعطينا إياه الشمس يومياً من الإشعاع والجاذبية. إنّ كمية الطاقة الإشعاعية التي تصل إلى كوكب الأرض كل دقيقة واحدة، هي أكثر من الطاقة التي تصرُّفها الإنسانية بكاملها كل عام. وكل ما يلزم هو "التطبيق السليم" للتكنولوجيا التي طوّرناها حتى اليوم. إنّ تلك التكنولوجيا حوّلت وأُسيء استثمارها؛ إذ إنّها استخدمت في المهام الخاطئة. وذلك على أساس إفتراض القلة، بدلاً من الوفرة في العالم، وما نجم عن ذلك من مواقف سلبية بين الأقوام، ضمن بنى النفوذ السياسي والإقتصادي الراهنة".
وعند هذا الحد، ينوّه "فولر" بالخطوات الأولى الأساسية على "الدرب الحرج" لخير الإنسانية. ويحدِّدها بخطوتين: الأولى هي تطوير شبكة كهربائية متكاملة للعالم كلّه. فهذه الشبكة تكامل المصالح الإقتصادية والإجتماعية لجميع بلدان العالم. وإنشاؤها بمقدورنا اليوم عن طريق إقامة بعض الوصلات الجغرافية. وقد عمل "فولر" لذلك بين قطبي الحرب الباردة لتحقيق ذلك. ووافق السوفياتيون على ذلك في حينه؛ ولكن الأمريكين تقاعسوا. ونأمل أن يحقّق ذلك في عصر "الكوكبة" و"العولمة"، مع أنّ الخطاب الحالي يدور حول الأسواق، وليس حول المنافع العامّة العالمية.
أمّا الخطوة الثانية على "الدرب الحرج" فهي استخدام شبكة التلفزيون العالمية، لتوعية الناس أجمعين بأنّ الخيرات الموجودة في العالم تكفيهم، وتزيد عن حاجتهم، ولا سيما إفهام العديد من الخبراء الذين، لا يقدرون إمكانات العالم وطاقاته حق قدرها، ويمضون في تشاؤمهم، وجرّ الناس معهم، ولا سيما السياسيين، إلى التنافس والتناحر والتذابح.
إنّ البشر هم جزء لا يتجزأ من الطبيعة. ومن الطبيعي أن نفترض أنّنا قادرون على درجات أعلى فأعلى من التعاون الحميم. إنّ ميل الكائنات الإنسانية نحو التراحم والجود هو بالدرجة الأولى نزوع طبيعي نحو التضامن والتكافل، بدلاً من التفرق والهلاك؛ كما هي الحال لدى أصحاب الأثرة. إنّنا ننهل من نفس الدافع لإعمار العالم، ولكنّنا نستنكف عن ذلك عندما تقطع علينا مصالحنا الشخصية الضيقة طريق أفعالنا الطبيعية. ولكن هناك عديد من المجدّدين في كل ميدان، يتواصلون بشبكات عالمية، ويتشاركون، ويقوون على مرّ الأيّام في خدمة المصلحة العامّة الكونية.
والواقع أن نموذج "الدرب الحرج"، برؤاه الكونية وإثباتاته العلمية، وباهتماماته الإنسانوية والأخلاقية، ومساعيه العالمية لإبقاء البشر على قيد الحياة الكريمة على هذه الأرض، ولتطوير تلك الحياة إلى نوعيات أفضل، عن طريق حسن استخدام خيرات الأرض الطبيعية الوافرة، فضلاً عن حسن إستعمال التكنولوجيا المطورة حتى اليوم، لخير الإنسانية جمعاء، وبتوكيد هذا النموذج أيضاً على تطوير الإنسان لنفسه، تطويراً شعورياً مستمرا، في مجتمع عالمي تعاوني يربح فيه الجميع، ولا يخسر أحد؛ إنّ هذا النموذج بكل هذه الأبعاد، وبصرف النظر عن ما ورائياته، يصلح كي تنتقل معظم مبادئه ومرتكزاته إلى دنيا التعليم والتربية، كمشروع إصلاحي كبير، ينسجم مع أحدث النظريات التربوية السليمة المثبتة عملياً، والقائلة: "إنّ ما يستطيع أن يتعلمه أي إنسان في هذا العالم، يستطيع كلّ الناس تقريباً أن يتعلموه، إذا وفرنا لهم الظروف التعليمية الملائمة قبل التعلّم وأثناءه".
كما أنّ هذا النموذج يتكامل مع نموذج الإنماء الثقافي الشامل ومع أسلوب "دامينغ"، كبديلين عن اتجاهات السوق. إنّما تلزم الإشارة إلى أنّ إيمان "فولر" المطلق بخضوع كل شيء في هذه الدنيا إلى "نظام" (يمكن حتى أن يحتسب رياضياً)، يتصل بما سبق أن ذكرناه حول التوجه التقني الوسائلي، ويتعرّض لنقد سلبي مشابه، بحسب معرفتنا الراهنة. ولذلك، يجدر تطوير نموذج "الدرب الحرج" من هذه الزاوية، لتحسين الإستفادة منه خارج حدود بعض العلوم الطبيعية البحتة، ولا سيما في المجالين الإجتماعي والتربوي، حيث لا قوانين ولا نظام نكتشفه، سوى النظام الذي أوجده أسلافنا، أو أجدناه، وهو في كل حال قابل للتغيير.
إنّ هذا النموذج بكل أبعاده، يصلح أن يكون مثالاً رائعاً لدمج المعطيات العلمية والتكنولوجية المتطوّرة، مع القيم والأخلاقيات التي تقدِّر وتقوِّم التشوهات الحاصلة حالياً في أساليب المعيشة والمعاملات بين الناس والشعوب والأُمم؛ ولا سيما بسبب سوء تصرّف رهط من العلماء والسياسيين، القيمي – الأخلاقي يكفل مستقبلاً زاهراً لجميع الناس على وجه الكرة الأرضية، إذا طوّروا قيمهم وذواتهم ومجتمعاتهم، واستهدفوا خير الإنسانية جمعاء.
- العولمة العلمية
والخلاصة بشأن مصير العلم والعالم، أنّه إذا اعتمد العلماء في دراسة الإنسان والطبيعة بأسرها على مبدأ السببية المزدوجة، المعروضة أعلاه، والمتجهة في أحد شقيها توجهاً جديداً من فوق إلى تحت، أي من الأكبر إلى الأصغر (Macro-Micro)، بحسب الاتّجاه العلمي الجديد، وفي شقها الثاني من الأصغر إلى الأكبر، بحسب الاتّجاه العلمي السابق، فإنّ النموذج الأساسي للبحث يتكامل بدراسة مختلف العوامل المسبِّبة للفعل الإنساني. وللسلوك الإنساني، ولا سيما العوامل العقلية والشعورية ذات الأهمية التربوية الواضحة، تلك التي أهملها العلم سابقاً، مع أنّها هي المتحكمة في سير العالم وفي مصيره.
وإذا كانت العمليات العقلية والشعورية غير منفصلة عن عمل الدماغ، ولا سيما بشأن العمليات الفيزيائية والكيميائية التي تجري على مستوى الخلايا العصبية، وإذا كانت تلك العمليات العقلية والشعورية وسائر عمليات الاستبطان تشكل نظاماً، قد يكون قابلاً للقياس بواسطة خوارق علمية تحصل في المستقبل البعيد، كما يعتقد بعض العلماء مثل "باكمينستر فولر"، فإنّنا اليوم قادرون على دراستها باستخدام نماذج البحث الأساسية التأويلية والنقدية بفعالية كبرى، دون أن يكون فيها قياس وهمي، ودون تشويه لها بمنهجية البحث الوضعاني التقليدية، وادّعاء القياس دون توافر شروطه.
وعلى أساس نماذج البحث الأساسية التأويلية والنقدية في العلوم الإجتماعية والإنسانية، يستطيع الباحثون والنظاليون من شتى أرجاء الدنيا، إنقاذ العالم من الكارثة، لا بمزيد من العلم والتكنولوجيا على الطراز الوضعاني، كما أكّدنا مراراً، بل بثورة قيم وأساليب حياة جديدة تتواءم مع متطلّبات تصحيح الوضع المتردّي الحاضر، ومستلزمات الدخول في مستقبل مشرق للإنسانية يتضمّن البقاء على قيد الحياة الكريمة على وجه الأرض، وضمن الكون، واعتماد إنماء العالم إنماءً قابلاً للاستدامة، دون إيذاء الإنسان والطبيعة كلّها. وفي إطار مثل هذا الإنماء السليم القابل للإستمرار دون الإضرار، وفي ظلّ الحياة الإنسانية الخيِّرة الكريمة، لا مانع من المزيد من عطاء العلوم والتكنولوجيا المطوّعين لخير الإنسانية جمعاء.
إنّ العقيدة العلمية الوضعانية السابقة، تتهاوى اليوم بصفتها صالحة لدراسة كل شيء وكل إنسان، لأنّها فعلاً لا تصلح لذلك؛ ويحل محلها نموذج أساسي للبحث العلمي يؤكّد أنّ العالم الذي نعيش فيه لا يُقاد قيادة عمياء بواسطة القوى الفيزيائية الفاقدة العقل فحسب؛ ولكنّه ينقاد بشكل حاسم، عن طريق القيم الإنسانية الذاتية، قيادة واعية. إنّ القيم الإنسانية الذاتية هي المفتاح الضمني والحقيقي لإحداث التغيير في العالمح وإنّ المعركة اللازمة لإنقاذ كوكب الأرض هي معركة قيم بالدرجة الأولى.
ومن المعلوم أنّ القيم الإنسانية ليست مطلقة؛ بل إنّها تتطوّر بمعظمها وتبقى قابلة للتطوّر، وتتصل فيما بينها، وترتبط بالسياق والإطار اللذين تولد فيهما وتترعرع وتشيخ. إنه لمن باب الانتحار الجماعي الإصرار على التمسك بالقيم الفعلية التي لا تزال سائدة في العالم حتى اليوم، من تقدير زائد للماديات وتعظيم للأرباح المادية والمعنوية، والتكالب على متاع الدنيا بتنافس مرير دائم؛ مع أن خيرات الأرض تكفي من فيها، إذا تحسن حكم الدنيا، وضبط عدد السكان على مستوى العالم، بالإنماء الحقيقي الشامل المتكامل لكل شعوب الأرض، ولا سيما المعدمين؛ إذ سيقل عندهم عدد الولادات حكماً. وبذلك لا يتأذى الناس كلّ الناس ولا تضار الطبيعة كلّها، وتتحسّن نوعية التبيؤ على وجه الأرض وضمن الكون.
إنّنا بحاجة إلى دراسات معمّقة مستفيضة، والى حوار مفتوح دائم، حول المثل العليا التي ستوجهنا، وتنقذنا من هذه المحنة العالمية التي نتخبط فيها على غير هدى، ويعتدي فيها بعضنا على بعض، ونعتدي فيها كلنا تقريباً على البيئة وعلى الطبيعة الرؤوم كلّها، تلك التي تحضننا وتؤوينا وتجدد لنا حياتنا؛ دون أن نقدِّر رد فعلها النهائي الساحق الماحق علينا.
ففي محيطنا الحيوي، تتداخل القوى الكونية وتشتبك مع عوامل التطوّر التي نشترك في إحداثها بأنفسنا. فالتطوّر ينقاد بواسطة الديناميكيات الذاتية البازغة النازلة، كما أسلفنا، من فوق إلى تحت، مع العمليات الفيزيائية الكيميائية الصاعدة من تحت إلى فوق في نفس الوقت؛ بحيث يتكوّن للتطوّر معانٍ واتجاهات وغايات تندمج في عداد القوى التي تحرّك الكائنات الحية، وتحكم مسيرتها، وتحدّد في آخر الشوط مصيرها.
والخير الأسمى هو التحسن المستمر في نوعية الوجود، إزاء مستقبل مفتوح على المزيد من التطوّر، لاستشراف معانٍ إنسانية وكونية جديدة وخيِّرة للجميع. وفي مثل هذا الإطار تتكرس قدسية الحياة الإنسانية، وتكريم الإنسان المستخلف في الأرض. مع العلم أنّ حقوق الإنسان الأساسية تشمل حقوق الأجيال القادمة ورفاهيتها؛ فضلاً عن حقوق الأجيال الحاضرة وسد حاجاتها الأساسية.
ويجدر أن نتذكر بهذا الصدد أنّ الندرة، والتميّز، والتنوع، والاختلاف في حياتنا وفي العالم من حولنا، كلّ هذه الأمور تخصب الحياة بالمعنى والقيمة. وإنّ محاولات التنميط والتقنين والإستنساخ في القدرات والأعمال الإنسانية، تفقدها الكثير من حيويتها، وتحطّ من شأنها. وكلّ الناس يتكيفون لحد أدنى من السعادة أو الرضى أو القبول، يشعرون معه ومع ما فوقه بأنّ الحياة معقولة، ويحسّون تحته بأنّ الحياة لا تطاق. وليس من الضروري أن يكون هذا المعيار متماثلاً لدى جميع الناس، ما خلا سدّ حاجاتهم الأساسية المادية والمعنوية التي تقيم أود الحياة. فالتنوع الحيوي له فوائد مشهودة؛ فضلاً عن قيمته الإجتماعية والجمالية؛ شرط أن يقترن بالاحترام للكائن الحي، أياً كان، وتمكينه من سد حاجاته الأساسية على الأقل.
"... إنّ العلم لم يبلغ نهاية المطاف – إذ إنّه لا يزال في البداية. إنّ العلم، بمعناه الغربي، لا يتجاوز عمره ثلاثة قرون.
وهذا العلم لم يستقصِ سوى جزء من الحقيقة الواقعية، ذلك الجزء الذي يتصل جوهرياً بالظواهر القابلة للإنقلاب.
واليوم نشهد توسعاً في العلم، وولادة نظرة إلى العالَم، تستطيع أن تشمل، دون تناقض، قوانين "نيوتن"، والكيمياء، والحياة والكائنات الإنسانية إنّ هذا التوسع يتجاوز التفتيت التقليدي في كلّ الميادين، وبخاصة في الميدان الثقافي. وبينما نأمل أن نبني مجتمعاً إنسانياً قائماً على روابط قوية من التواصل، لا نرغب في أن نبني عالماً متطابقاً يخلو من إنجازات الماضي. لذا يجب أن نجد طريقة للحفاظ على التعددية الثقافية ضمن مجتمع يحفل بالتفاعل... فهل نشهد اليوم ولادة اتّجاهٍ إنساني جديد...
... إنّ زماننا، مثل النهضات السابقة، يتّسم بنهاية اليقين، وبزوغ أسئلة جديدة، وتصوّرات طوباوية خيالية. ولذلك سيتذكر الناس الحقبة التي نعيشها اليوم، فيعتبرونها حدّاً فاصلاً".
إنّ المنظورات المتكاملة المطروحة هنا، على أساس شمول العلم لحياة الإنسان الذاتية؛ فضلاً عن حياته الجسمية، وتحوّلات الطبيعة كلّها من حوله، تجعل للعلم عمومية كاملة؛ وتتضمن جذعاً مشتركاً من القيم الإجتماعية الضرورية التي تنتظم الحياة الإنسانية على أسس جديدة فضلى منذ اليوم، مثل: المحبة، والحرِّية، والعدالة، والمسؤولية، واحترام الحياة، وما أشبه ذلك؛ فضلاً عن ترتيب الأسبقيات البيئية، والإجتماعية، والأخلاقية في مشاريع النهضة العالمية.
ولاشكّ أن هذه العولمة العلمية الجديدة تختلف عن عولمة الأعمال الإقتصادية/ السياسية التي تبتغي أساساً الهيمنة والربح المادي والمعنوي؛ كما أنّها تتطلّب تشريعات دولية جديدة، فضلاً عن ضرورة التقارب بين الأُمم، ووقف هذا التسابق المجنون بين الدول والجماعات والأفراد على العدوان والفوز بالنفوذ ومتاع الدنيا. ولن ينقذ هذا العالَم المعولم بإيديولوجية السوق والمنافسة الإقتصادية سوى الديمقراطيات التفاكرية الحقيقية.
وقد تصبح منظمة الأُمم المتحدة، بما فيها اليونسكو، إذا أعيدت صياغتها بشكل يوقف الهيمنة عليها، ويوجهها فعلاً لمهام مستقبلية خيّرة، مرجعاً صالحاً وقاعدة معقولة لبناء نظام دولي جديد للعدل والعدالة، وللإستفادة القصوى من الثورات العلمية والإجتماعية الحميدة، ورفع مستوى الإستنكار، لفظاً وعملاً، للفظائع التي ما تزال ترتكب حتى اليوم بإسم الحرِّية، والديمقراطية، والروحانية والإنسانية.
[size=16]
[/size]