تحـديد الخطـأ المنشأ للمسؤولية العقـدية
مما تقدم فالقول هو أن الخطأ العقدي هو عدم تنفيذ المدين لالتزامه التعاقدي الذي نشأ من خلال إبرام عقد,ويستوي في ذلك أن يكون عدم التنفيذ ناشئ عن عمد أو إهماله أو فعله, أيا كان السبب.
فالأصل إذا أن يكون المدين مسؤولا عن خطئه الشخصي, ولكن قد يكون المدين مسؤولا عن عمل الغير أو عن الأشياء التي تكون في حراسته ولذلك سنتطرق من خلال مطلبنا هذا إلى عنصرين هامين وهما: الخطأ العقدي في مسؤولية المدين عن عمله الشخصي,ثم الخطأ العقدي عن فعل الغير و عن فعل الأشياء.
الفرع الأول : الخطـأ العقدي عن الفعل الشخصـي
إن عدم تنفيذ الالتزام يختلف بحسب نوعه,إذ أن الالتزامات تنقسم إلى قسمين بالخصوص يجب التفريق بينهما وهما : الالتزام بتحقيق غاية أو نتيجة,والالتزام ببذل عناية أو بوسيلة.
أ ( الالتزام بتحقيق غاية أو نتيجة:
في هذا النوع يلتزم المدين بتحقيق نتيجة معينة وهي محل الالتزام. من ثم يكون تنفيذه بتحقيقه لهذه النتيجة مثال ذلك الالتزام بنقل ملكية شيء,أو بإقامة بناء أو تسليم عين.فمثل هذه الالتزامات لا يتم تنفيذها إلا بتحقيق الغاية المقصودة من التعاقد وهي إما نقل الحق أو إقامة البناء، أو تسليم العين.و الملاحظ أن معظم الالتزامات التعاقدية تدخل ضمن هذا النوع.
ويكفي عدم تحقيق الغاية لوقوع الخطأ العقدي من جانب المدين بالالتزام.ويتعين على المدين لكي يدفع عنه المسؤولية أن يقيم الدليل على وجود السبب الأجنبي الذي حال بينه وبين تنفيذ الالتزام.
ب) الالتزام ببذل عناية أو بوسيلة:
هذا النوع من الالتزامات لا يجبر المدين أن يحقق نتيجة معينة, وإنما الالتزام هنا يقع عليه ببذل قدر معين من العناية التي تؤدي إلى الوصول للغرض المعين أو المقصود من العقد. ولذلك فإذا بدل المدين بالالتزام هذا القدر من العناية فيكون قد نفذ التزامه التعاقدي وهذا بغض النظر عن ما إذا تحقق الغرض أو النتيجة المنتظرة من العقد, والعناية المطلوبة هنا هي عناية الرجل العادي أي رب الأسرة المعني بشؤون نفسه,مثال دلك التزام الطبيب بعلاج المريض,فهو لا يضمن للمريض الشفاء أو نجاح العلاج ، وإنما عليه بذل ما تمليه عليه مهنته من العناية في علاج المريض ، فإذا قام بها ووفر العناية الواجبة قد يكون أدى التزامه حتى ولو لم يشفى المريض .
وأيضا نفس الأمر للمستأجر الذي يجب عليه أن يبذل من العناية في استعماله للعين المؤجرة وفي المحافظة عليها ما يبذله دائما الرجل العادي ، وكذلك المستعير أن يبذل في المحافظة على الشيء العناية التي يبذلها الرجل العادي في المحافظة على ماله .
ويتضح من هذا أن الالتزام ببذل عناية يكون الخطأ فيه هو عدم بذل القدر الواجب من العناية . فلا يكفي من الدائن هنا إثبات عدم تنفيذ الالتزام بل عليه إثبات الخطأ المتمثل في أن المدين لم يقم ببذل العناية المطلوبة واللازمة في تنفيذ التزامه.
ويبقى للمدين إذا أراد دفع المسؤولية عنه إقامة الدليل على وجود سبب أجنبي حاله دون ذلك .ونشير إلى أن في هذا النوع قد يتفق الأطراف على درجة العناية المطلوبة في تنفيذ الالتزام وبذلك تأخذ في تقدير العناية، أما في حالة انعدامه فكما قلنا سابقا نرجع إلى تقدير هذه الأخيرة مستعملين في ذلك معيار الرجل العادي.
ج ( الالتزام بالسلامة :
هذا النوع من الالتزام يظهر خاصة في عقود النقل،ففي نقل المسافرين مثلا يتعين على الناقل أن يوصل الراكبين إلى الوجهة المتفق عليها على أن يضمن سلامتهم.وهدا يعتبر التزام قانوني يقع على عاتق الناقل و يرتب عليه المسؤولية عن الاخلال بذلك.
و قد اعتبر أن كل شرط يرمي إلى الإعفاء من هذه المسؤولية مخالفا للنظام العام .فالقانون التجاري نص على هدا النوع من الالتزامات في مادته 62 و التي جاء فيها:"يجب على ناقل الأشخاص، أن يضمن أثناء مدة النقل سلامة المسافر و أن يوصله إلى الوجهة المقصودة في حدود الوقت المعين بالعقد".
فإذا كان ممكنا للمسافر الذي يطالب الناقل بتعويض عن إخلاله بإلتزامه بسلامته، أن يقيم الدليل على إصابته في أثناء النقل.
كما نجد أن هذا النوع من الالتزام في مسألة ضمان سلامة البناء و هذا يكون في عقود المقاولة، حيث يعتبر المقاول مسؤولا عن سلامة البناء الذي قام بإنجازه لصاح الدائن و أي إخلال بالتزامات العقد أو أي تقصير منه في تنفيذها يرتب على عاتقه المسؤولية العقدية الناتجة عن عدم الالتزام بضمان سلامة البناء.
بالإضافة إلى عقود البيع أين يكون البائع ملزما بتنفيذ التزاماته التعاقدية، و منها مطابقة السلع للنوعية و الجودة المتفق عليها فهي محل ضمان البائع.
الفرع الثاني : الخطأ العقدي في المسؤولية عن فعل الغير وعن فعل الأشياء
يتحقق الخطأ العقدي لما سبق ذكره ، بمجرد عدم وفاء المدين لالتزامه ولا يؤثر في تحققه أن يكون عدم الوفاء راجعا إلى فعل شخص أخر غير المدين ، سواء كان هذا الشخص تابعا له أم كان بديلا عنه أو نائبا أو مساعدا في تنفيذ العقد .
كما تتحقق مسؤولية المدين أيضا ، إذا كان عدم الوفاء بالالتزام يرجع إلى فعل شيء في حراسة المدين ، أو كان المدين يستخدم هذا الشيء في تنفيذ التزامه. وعلى ضوء هذا سنتطرق إلى كل من الخطأ العقدي في المسؤولية عن فعل الغير، والخطأ العقدي في المسؤولية عن فعل الأشياء .
1ـ الخطأ العقدي والمسؤولية عن فعل الغير :
لتحديد حالة مسؤولية المدين العقدية عن خطا الغير، يتعين استبعاد الحالات التي قد تشتبه بالحالة موضوع البحث، ومن ذلك حالة ما إذا كان المدين قد تعهد شخصيا بتنفيذ الالتزام فان كان خالف التعهد وعهد إلى الغير بتنفيذ الالتزام فقيام مسؤوليته لا لخطأ الغير بل لخطئه الشخصي,ومنها حالة ما إذا كان تدخل الغير لمنع تنفيذ الالتزام بالتواطؤ مع المدين, إذ تقوم مسؤولية المدين على أساس الخطأ الشخصي وعلى ذلك يكون الوضع الطبيعي لمسؤولية المدين عن خطا الغير هي حالة حلول الغير محله حلولا صحيحا في تنفيذ التزامه ، ويتحقق ذلك إذا كلف المدين الغير وقد أذن له الدائن في ذلك بتنفيذ التزامه ، وكان التكليف آت من القانون كما هو الشأن بالنسبة لمسؤولية الصغير أو المحجور عليه من خطأ الولي أو الوصي أو القيم في تنفيذ العقود التي عقدوها لحسابه (1).
1ـ د.أنور سلطان ، الموجز في مصادر الالتزام ، منشأة المعارف، الإسكندرية 1996 ، ص253 .
أ ( الأساس القانوني للمسؤولية العقدية عن الغير :
لو تصفحنا نصوص القانون المدني المتعلقة بالمسؤولية التعاقدية لا نجد نصا صريحا يشير بصفة مباشرة إلى المسؤولية العقدية عن الغير وذلك على غرار النص الذي يقرر القاعدة العامة في المسؤولية التقصيرية عن عمل الغير، وهو نص المادة 136 من القانون المدني الجزائري الذي يقرر مسؤولية المتبوع عن تابعه.غير أننا إذا تمعنا في نص المادة 178 من ق م ج التي تقول " وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب عن عدم تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو خطئه الجسيم ، غير انه يجوز للمدين أن يشترط إعفائه من المسؤولية الناجمة عن الغش ، أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه ".
فيمكن أن نجزم بطريق غير مباشر أن هذا النص يقرر مبدأ المسؤولية العقدية عن فعل الغير؛لأن هذا الأخير يستخلص ضمنيا من هذا النص، فباعتبار أن هذا النص خاص بتعديل قواعد المسؤولية العقدية عن فعل الغير لا يتصور تطبيقه إلا إذا كانت القاعدة العامة هي مسؤولية المدين مسؤولية عقدية عن خطأ من يستخدمهم في تنفيذ التزامه (1). فيما أنه يجوز للمدين أن يشترط عدم قيام مسؤوليته عن الخطأ الذي يلحق من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه . فذلك لا يستقيم إلا إذا كان هو في الأصل مسؤولا عن خطأ هؤلاء الأشخاص فيستطيع أن يبقي هذه المسؤولية بالاتفاق (2).
ب ( شروط المسؤولية العقدية عن الغير وأحكامها :
إن الغير يكون مكلفا سواء بموجب القانون أو الاتفاق ، ويكون المدين مسؤولا عنه وهذا ما لم ينفذ هذا الغير العقد. وبوجه عام كل من كلفه اتفاق أو قانون بالحلول محل المدين في تنفيذ الالتزام يكون هو الغير في المسؤولية العقدية عن فعل الغير.
1ـ د.أنور سلطان ـ المرجع السابق ـ ص254 .
2ـ د.عبد الرزاق السنهوري ـ المرجع السابق ـ ص432 .
و يجب أن يكون الغير قد ألحق ضررا في حال تنفيذ العقد أو بسبب تنفيذه. وخطأ الغير في الالتزام بغاية يكون بعدم تحقق الغاية المتفق عليها, وفي الالتزام بعناية يكون بعدم بذل العناية المطلوبة، وفي الالتزام بالسلامة يكون بعدم ضمان السلامة. فخطأه و خطأ الأصيل سواء ، فإذا توافرت هذه الشروط تحققت المسؤولية العقدية عن الغير ويصبح المدين مسؤولا عن خطأ الغير الذي استخدمه في تنفيذ التزامه ، وإذا تحققت مسؤولية المدين عن الغير جاز للأول أن يرجع على الثاني إما بالمسؤولية العقدية إذا كان هو الذي كلفه بتنفيذ العقد, وإما بالمسؤولية التقصيرية إذا كان الثاني مكلفا بتنفيذ العقد بمقتضى القانون (1) .
2ـ الخطأ العقدي في المسؤولية عن الأشياء :
إذا لم يقم المدين بتنفيذ العقد كان هذا خطأ عقديا كما أسلفنا ذكره ، فإذا كان عدم التنفيذ للالتزام العقدي راجعا لا لفعله الشخصي بل لفعل الشيء أي إلى تدخل ايجابي من شيء أفلت من حراسته، كان المدين مسؤولا مسؤولية عقدية ولكن ليس عن"فعله الشخصي" بل عن "فعل شيء" .
أ ( الأساس القانوني للمسؤولية العقدية عن فعل الشيء :
إن القانون المدني الجزائري من خلال تصفحنا له نصل إلى أن المشرع لم ينص ولم يورد قواعد خاصة بمسؤولية المدين العقدية عن فعل شيء في حراسته, إذ أنه بوجود هذا الشيء الذي يكون في حراسة المدين ، يجعل فعله منسوب إلى المدين فقط، فان فعل هذا الشيء يعتبر فعلا شخصيا للمدين فيكون هدا الأخير مسؤولا عن فعل الشيء الذي في حراسته ، ولكن هذا إذ أفلت زمامه من يده (2).
أما إذا وجدت نصوص خاصة في شان المسؤولية عن فعل الشيء فيتعين الأخذ
1ـ د. العربي بلحاج ـ المرجع السابق ـ ص 278 .
2ـ د.علي علي سليمان ـ دراسات في المسؤولية المدنية ،ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر 1984،ص 160.
بها,كما هو الأمر فيما يتعلق بالمادة 483 من ق م ج التي تنص انه : " على المؤجر أن يمتنع عن كل ما من شأنه أن يحول دون انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة ولا يجوز له أن يحدث بها، أو بملحقاتها أي تغيير يخل بهذا الانتفاع. ولا يقتصر ضمان المؤجر على الأعمال التي تصدر منه أو من مأموريه ، بل يمتد هذا الضمان إلى كل إضرار أو تعويض مبني على سبب قانوني يصدر من مستأجر آخر أو من أي شخص آخر تلقى الحق عن المؤجر " . فهي بذلك تقرر ضمان المؤجر للمستأجر ما يوجد في العين المؤجرة من عيوب تحول دون الانتفاع بها، وعليه فانه يسأل المؤجر عن الضرر الذي يلحق المستأجر من فعل العين المؤجرة على أساس فعل الشيء وليس على أساس فعل المؤجر الشخصي ، مع الإشارة إلى أن في عقد الإيجار فان حراسة العين المؤجرة تنتقل من المؤجر إلى المستأجر طيلة مدة الإيجار ، وبذلك يصبح المستأجر حارسا أصليا للشيء .
كما نضيف إلى أن المادة 379 من ق م ج التي نصت على : " يكون البائع ملزما بالضمان إذا لم يشتمل المبيع على الصفات التي تعهد بوجودها وقت التسليم إلى المشتري أو إذا كان بالمبيع عيب ينقص من قيمته أو من الانتفاع به بحسب الغاية المقصودة منه حسبما هو مذكور بعقد البيع، أو حسب ما يظهر من طبيعته أو استعماله. فيكون البائع ضامنا لهده العيوب و لو لم يكن عالما بوجودها...", فهي تجعل البائع ملزما بضمان العيوب الخفية في الشيء المبيع ولو لم يكن عالما بها, وهي تعتبر مسؤولية عقدية إنتاجها عقد البيع (1).
ب ( شروط المسؤولية العقدية عن فعل الشيء وأحكامها :
كما تم بيانه سابقا أن قيامها يكون بعدم تنفيذ المدين لالتزامه العقدي,و الذي هو راجع إلى فعل الشيء الذي افلت من حراسته بحيث يكون له تدخل ايجابي.
1ـ د.العربي بلحاج ـ المرجع السابق ـ ص 280.
وبذلك يكون مسؤولا المدين مسؤولية عقدية عن فعل هذا الشيء ويتحقق ذلك بالشروط التالية (1) :
1- أن يسلم المدين الشيء محل العقد للدائن: مثل البائع يسلم الآلة المباعة للمشتري فتنفجر الآلة في يد المشتري وتصيبه بضرر في نفسه أو في ماله, فهنا يصبح البائع مسؤولا بمقتضى التزامه العقدي المتعلق بضمان العيوب الخفية. فيكون البائع مسؤولا مسؤولية عقدية ولكن ليس عن فعله الشخصي بل عن فعل الشيء .
2- أن يكون المدين مسؤولا عن رد الشيء محل العقد للدائن : كالمستأجر يتلزم برد العين المؤجرة، فيتدخل شيء آخر في حراسة المستأجرـ كالمواد المتفجرة ـ يتسبب في حريق العين، فهنا لم يقم المستأجر بتنفيذ التزامه برد الشيء,فيكون مسؤولا مسؤولية عقدية ،و لكن لا عن فعله الشخصي بل عن فعل الشيء, وهنا هذا الشيء يتمثل في المواد المتفجرة ، لا العين المؤجرة .
3- أن يقوم المدين بتنفيذ العقد عن طريق استعماله شيئا , فيؤذي هذا الشيء الدائن ويكون المدين مسؤولا عن سلامة الدائن بمقتضى العقد, مثال ذلك : عقد النقل ينفذه أمين النقل بوسائل المواصلات المختلفة : قطار أو سيارة أو طائرة أو غير ذلك, فيصطدم القطار أو تنفجر السيارة أو تسقط الطائرة ، فيصاب الراكب بالضرر, هنا أيضا لم ينفذ أمين النقل التزامه نحو الراكب ، إذا هو ملتزم بسلامته ، فيكون مسؤولا مسؤولية عقدية, ولكن لا عن فعله الشخصي بل عن فعل الشيء .
ففي كل الأحوال ، تقوم المسؤولية العقدية بوجود عقد بين طرفين ، ويكون أساس هذه المسؤولية ليس الفعل الشخصي, بل فعل الشيء ،وهو لا يعتبر سببا أجنبيا عنه ، ولا تندفع به مسؤولية المدين (2).
1ـ د. عبد الرزاق السنهوري ـ المرجع السابق ـ ص 670، 671 .
2ـ د. العربي بلحاج ـ المرجع السابق ـ ص 279.